خواطر ونصوص

حين يمطر الحزن فوق الخيام

حين يهطل المطر… نحبّه.
نحب صوته وهو يطرق النوافذ، ورائحته حين تعانق التراب، ونحب ذاك الصفاء الذي ينساب في صدورنا كأنّ الدنيا تعود بريئة للحظةٍ واحدة.
المطر عندنا موسيقى تطفئ التعب، وتطهر الطرقات، وتعيد للروح شيئًا من الطمأنينة الضائعة.

لكن في غزة…
المطر ليس كذلك.
المطر هناك يهبط بثقلٍ يشبه الوجع، يدخل الخيام بلا استئذان، يبلّل الأغطية النحيلة، يُطفئ ما تبقّى من دفءٍ ضئيل، ويُربك لياليَ بالكاد تصمد أمام الريح.

الأطفال لا يركضون تحت المطر…
لا يضحكون حين تصطدم القطرات بجباههم…
بل ينكمشون في زوايا الخيمة، يراقبون السماء بعيونٍ خائفة،
كأن كل قطرة قد تحمل معها بردًا جديدًا، أو مرضًا، أو ليلًا أطول من قدرتهم على الاحتمال.

والنساء…
يجففن القماش المبتل بأصابع مرتجفة،
يُخفين دموعهن كي لا يثقل الحزن على الصغار،
ويقتسمن ما تبقّى من دفءٍ كأنّه آخر ما يملّكنه من أمومة.

والرجال…
يقفون عند مداخل الخيام بصمتٍ موجع،
صمت من فقد البيت، وفقد معه القدرة على حماية من يحبّ،
وينظرون للمطر لا كنعمة، بل كخطرٍ يهدّد أيامهم الهشة.

هناك…
البرد ليس طقسًا.
إنه غذاءٌ يوميّ يلتصق بعظامهم،
يأكل من صحتهم، من صبرهم، من قوتهم،
ويذكّرهم في كل لحظة بأنهم مشرّدون فوق أرضهم، بلا جدرانٍ ولا دفءٍ يحتضن هذا الخوف.

ونحن… حين نحب المطر،
نحبّه لأن لنا سقفًا يحمينا، وبابًا يغلق علينا نعمتنا،

أما أهل الخيام،
فكل قطرةٍ تهوي فوق رؤوسهم تشبه اختبارًا جديدًا للصبر،
وكل ليلةٍ باردة تشبه سؤالًا موجعًا:
إلى متى؟

ونحن نشاهدهم من خلف الشاشات… أو نتظاهر بعدم مشاهدتهم،
نخفض الصوت، نمرّر المقطع دون أن نتوقف،
نغلق أعيننا كي لا يلتصق المشهد بقلوبنا،
نختبئ خلف صمتٍ طويل…
صمتٌ نعلم في أعماقنا أنه خذلان،
لكنه السور الأخير الذي نحاول به حماية أرواحنا من الألم.
كأن الهروب من الوجع أسهل من مواجهته،
وكأن تجاهل الدموع يخفّف من ثقلها.

المطر جميل…
لكن الأجمل أن يجيء يومٌ لا تجرح فيه قطرةٌ واحدة طفلاً،
ولا تبكي فيه امرأةٌ خوفًا من ليلٍ بارد،
ولا يقف فيه رجلٌ عاجزًا أمام خيمةٍ تهتزّ في الريح.

يومٌ يعود فيه الدفء للجميع…
ويعود فيه المطر نعمةً، لا خوفًا.

مرتينا موسى برادعية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى