هناك كُتّاب يولدون من الحبر، وآخرون يولدون من الحاجة إلى الكتابة، من الغضب الذي لا صوت له، ومن الحنين الذي لا يسكن. وصديقتي مريم بُلحرير المعروفة أدبيًا باسم “مريم الحسن” هي ابنة هذا النوع الأخير: تكتب لأنها لا تملك إلا أن تكتب، لأنها حين تصمت، يعلو صوت القصيدة في داخلها.
في ديوانها الأول “وقت مطرود”، لم تكن تكتب قصائد نثرية عادية، بل كانت توثّق صراعًا داخليًا، تفريغًا صادقًا لغضبٍ أنيق تشكّل في قلبها، ثم سال على الورق بلغة شاعرية لا تخلو من التمرّد والحنان معًا. كل صفحة من صفحات الديوان تشبه وقفة أمام البحر، أمام الذاكرة، أمام الريف، حيث لا تنفصل الأرض عن الروح، ولا القصيدة عن الحياة.
مريم ليست فقط كاتبة، بل مرآةٌ ناطقة لنساء الريف. صوتها يحمل نبرة الأرض، ولهجتها تكتبها القصائد كما تكتبها هي، دون تكلّف ولا قناع. وفي نصوصها تحضر المدينة التي تنتمي إليها ” الناظور ” كحبيبةٍ ومكانٍ ومهرب، كما تحضر القهوة كطقس اعتراف، والبحر كشاهد على كل ما لم يُقال.
لقد جمعتني بها صداقة صافية، عنوانها المشترك هو الكلمة. وكنت شاهدة على جزء من لحظاتها، على صراعاتها الصامتة، وعلى قوةٍ هادئة تسكنها، لا تتحدث كثيرًا، لكنها تُدوِّن بحزم. وكتبت عنها في قصيدة شعرت فيها أن اللقاء بيننا كان بداية لشيء يشبه الصحوة:
على “خُطى عِبرةِ الأحرار”: البِداياتُ تُشبهُ لِقاءً مَريمي
أَنْ نُلْقِيَ الشِّعْرَ بِالرِّفِيَّةِ، وَنَقُولَ بِفَخْرٍ: إِنَّا لِرِيف نَنْتَمِي
أَنْ نَتَلَهَّفَ لِلِقَاء، وَفِي أَحْضَانِ بَعْضٍ نَرْتَمِي
أَنْ أَشْكُوَ قَلَقِي، فَتَقُولَ أَنْتِ لَهَا: لَا تَحْزَنِي
أَنْ نَمْشِيَ مَعًا وَالْبَحْرُ يُنَادِي: أَنَا هُنَا، لَا تَنْسَنِي
غَارَتِ السَّمَاءُ، وَأَكْوَابُ الْقَهْوَةِ حِينََ الْتَقَيْتُ بِمَرْيَمِي
“وقت مطرود” ليس فقط عنوان ديوان، بل هو زمن داخلي أرادت مريم أن تطرده بالكتابة، ففعلت. كتبت لتنجو، ونجَت. كتبت لتُعبّر، فشهد لها البحر، وأقرت لها القصائد أنها تستحق أن تُقرأ بصوتٍ عالٍ.
تحية من القلب إلى مريم، لأنها جعلت من الألم صوتًا، ومن الريف بيتًا في اللغة، ولأنها، قبل كل شيء، صديقة تعرف كيف تُشبه القصيدة.
بقلم: سلمى القندوسي