ورقة وريشة

تركي الدخيل… رحلة من دفاتر التحرير إلى مقاعد الدبلوماسية


الإعلامي السعودي تركي الدخيل نموذج لمن آمن بأن الإعلام ليس مجرد نافذة على العالم، بل جسر حقيقي لفهمه والتأثير فيه.
حين بدأ الدخيل مشواره الصحفي عام 1989، لم يكن يدرك أن تلك الخطوة ستضعه في قلب المشهد الإعلامي العربي لثلاثة عقود متواصلة. كانت الصحافة المطبوعة آنذاك في عز ازدهارها، وكانت غرف التحرير تعج بصخب الآلات الكاتبة وضجيج النقاشات السياسية. وسط هذا الصخب، شق الدخيل طريقه متنقلاً بين أبرز منابر الرأي: عكاظ، الرياض، الوطن، الشرق الأوسط، والحياة. لم يكن مجرد صحفي يغطي الأحداث، بل كاتب يحاول فك شيفرة السياسة والثقافة في منطقة تموج بالتحولات.
غير أن الطموح لا يرضى بسقف واحد. فانتقل إلى الإذاعة في أواخر التسعينيات، حين عمل مراسلاً لإذاعة مونتي كارلو وإم بي سي، ثم سرعان ما استهواه الإعلام الرقمي الناشئ. كان من أوائل من آمنوا بأن المستقبل يكمن في الفضاء الإلكتروني، فأدار الموقع الإلكتروني لقناة العربية حتى عام 2007، في وقت كانت فيه الصحافة الرقمية لا تزال تبحث عن هويتها.
لكن القفزة الحقيقية جاءت عام 2003 حين ظهر على الشاشة مقدماً لبرنامج “إضاءات”. هنا، لم يعد تركي الدخيل مجرد اسم في نهاية مقال أو صوت في أثير الإذاعة؛ صار وجهاً يدخل ملايين البيوت العربية كل أسبوع. كان البرنامج مختلفاً، لا يكتفي بطرح الأسئلة التقليدية، بل يحاول النفاذ إلى ما وراء الخطاب الرسمي، إلى القصة الإنسانية خلف الشخصية العامة. وتبعته برامج أخرى مثل “مع تركي الدخيل” و”في خاطري شي”، كل منها يحمل بصمة صاحبها: الجرأة في السؤال والرصانة في التناول.
عام 2015 شكل منعطفاً آخر حين تولى إدارة قناة العربية. المنصب لم يكن مجرد ترقية إدارية، بل مسؤولية توجيه واحدة من أبرز المنصات الإخبارية العربية في زمن عاصف، تتسارع فيه الأحداث وتتشابك الروايات. كان عليه أن يوازن بين المهنية والسرعة، بين الموضوعية والتأثير، بين متطلبات السوق وأخلاقيات المهنة.
لكن الدخيل لم يكن راضياً بدور الإعلامي وحده. فأسس مركز المسبار للدراسات والبحوث، ودار مدارك للنشر، ومركز دوربا للتدريب. هذه المؤسسات لم تكن مشاريع تجارية بقدر ما كانت محاولة لخلق بيئة فكرية تسهم في إنتاج المعرفة لا استهلاكها فقط. وجاءت كتبه الاثنا عشر لتعكس هذا التوجه: “التسامح زينة الدنيا والدين”، “قال لي القصيبي”، “كنت في أفغانستان”، وغيرها من العناوين التي تحمل شهادات وتأملات أكثر منها نصوصاً تقريرية جافة.
التقدير لم يتأخر. صنفته مجلة أريبيان بزنس مراراً ضمن أكثر الشخصيات العربية تأثيراً، وحصل عام 2014 على جائزة جمعية أمريكا للإعلام الخارجي تقديراً لجهوده في دعم حقوق الإنسان والنهوض بدور المرأة. هذه الجوائز لم تكن مجرد شهادات تُعلق على الجدران، بل كانت تأكيداً على أن الإعلام حين يُمارس بمسؤولية يمكن أن يكون أداة حقيقية للتغيير.
عام 2019، حدث ما لم يتوقعه كثيرون: تعيينه سفيراً للمملكة في الإمارات. البعض رأى في هذا التحول انقطاعاً عن المسار الإعلامي، لكن الأقرب للحقيقة أنه امتداد طبيعي له. فالدبلوماسية، في جوهرها، فن التواصل وبناء الجسور، وهو ما قضى الدخيل عمره يفعله عبر الكلمة والصورة. واليوم، يجمع بين مهامه الدبلوماسية وإدارته لشبكة أخبار العربية في دبي، في توليفة نادرة تختصر رحلة رجل لم يكتفِ بمتابعة الأحداث، بل حاول صناعتها.
في النهاية، لا يمكن اختزال مسيرة تركي الدخيل في قائمة من المناصب والجوائز. إنها قصة رجل آمن بأن الكلمة مسؤولية قبل أن تكون حرفة، وأن الإعلام رسالة قبل أن يكون مهنة. وربما هذا هو السر وراء بقاء اسمه في المشهد العام لثلاثة عقود، في زمن تتغير فيه الأسماء بسرعة الأخبار العاجلة.

عبدالعليم مبارك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى