في بيوتٍ كثيرة، تختبئ وراء الجدران صرخاتٌ لم تُسمع، ودموعٌ لم تُمسح، وقلوبٌ صغيرة كانت بحاجة إلى الحنان، لكنها لم تجد إلا القسوة أو الإهمال. أخطاء الآباء ليست دائمًا متعمدة، لكنها في الغالب تُخلف ندوبًا عميقة في نفسية الأبناء، تظل ترافقهم مدى الحياة.
أخطاء تربي ندوبًا لا تُرى
1. القسوة المفرطة باسم التربية:
يظن بعض الآباء أن الشدة المفرطة تربي رجالًا، وأن الحزم القاسي يصنع شخصيات ناجحة. فيُمارسون التوبيخ المستمر، العقاب الجسدي، والصراخ. لكن الدراسات النفسية تُظهر أن هذه الأساليب تزرع الخوف، لا الاحترام؛ التمرد، لا الطاعة؛ والكراهية، لا الحب.
2. المقارنة القاتلة:
“شوف ولد فلان!”، “فلانة أشطر منك!”… كلمات تُقال يوميًا دون وعي، لكنها تُحدث شرخًا في نفس الطفل. المقارنة تقتل الثقة، وتُشعره بالدونية، وتبني داخله كراهية تجاه من يُقارن به، بدلًا من أن تحفّزه.
3. الحرمان العاطفي:
ليس كل حرمان هو مادي. بعض الأبناء يعيشون في بيوت كبيرة، يأكلون جيدًا، يلبسون أجمل الملابس، لكنهم محرومون من كلمة “أحبك”، من حضن دافئ، من حوار صادق. يكبرون وهم يفتشون عن الحب في أماكن خطأ، في علاقات سامة، أو في مواقع التواصل.
4. التقليل من المشاعر:
كم مرة سمع الطفل عبارة: “راك تبكي بحال البنات؟”، “هادي ماشي حاجة تستاهل تحزن عليها”… فيتعلم كبت مشاعره، يخجل من دموعه، ويظن أن التعبير عن الألم ضعف. النتيجة؟ شاب/شابة لا يستطيع التعامل مع مشاعره، يتهرب منها، أو يُخفيها خلف قناع من اللامبالاة.
5. فرض الطموحات الشخصية:
بعض الآباء يرون أبناءهم امتدادًا لأحلامهم التي لم تتحقق. فيجبرونهم على اختيار تخصص معين، أو مهنة معينة، دون مراعاة ميولهم وقدراتهم. فيتحول الابن إلى آلة تُنفّذ لا إنسان يُفكر، ويعيش حياة لا تُشبهه.
لكن الأبناء لا يتكلمون… لماذا؟
لأنهم تعلموا منذ الصغر أن الأب لا يُجادَل، وأن الأم لا تُناقَش، وأن مجرد التعبير عن الألم يُعد “عقوقًا”. فيصمتون، ويكتمون، ويتعلمون كيف يبتسمون أمام آبائهم بينما قلوبهم تنزف.
يقول أحدهم: “أبي لم يكن يضربني، لكنه كان يجرحني بكلماته، ولم يعتذر لي يومًا. كنتُ أتمنى أن يسمعني، لا أن يحكم عليّ. أن يسألني عن يومي، لا عن علاماتي فقط.”
ويقول آخر: “أمي كانت موجودة، لكنها لم تكن حنونة. كنت أخاف منها أكثر مما أحبها. كبرت، لكن جرح الطفولة ما زال يرافقني.”
الإسلام لم يُغفل حقوق الأبناء
كثيرًا ما نردد: “وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا”، لكننا نغفل عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:
> “إن الله سائلٌ كلَّ راعٍ عمَّا استرعاه: أحفِظ أم ضيَّع حتَّى يسأَلَ الرَّجلَ عن أهلِ بيتِه”
وفي حديث آخر:
> “كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يعول”
الله تعالى أمر بالعدل، والرحمة، والإنصاف. فإن كان عقوق الوالدين كبيرة من الكبائر، فعقوق الأبناء كذلك ظلم لا يرضاه الله.
رسالة إلى كل أب وأم:
توقفوا قليلًا… لا تنظروا فقط إلى “ماذا أصبح أبناؤكم؟”، بل اسألوا أنفسكم: “كيف يشعرون؟”، “هل نحن سبب راحتهم أم ألمهم؟”
إن التربية ليست أوامر، ولا توبيخًا، بل تربية الأرواح قبل العقول. الأبناء يحتاجون إلى الحب، إلى الوقت، إلى من يفهمهم دون أن يحكم عليهم.
لا تتذرعوا بالدين لتسكتوا أبناءكم عن ألمهم، فالله لا يرضى بالظلم ولو جاء من الأب لابنه.
ورسالة إلى الأبناء:
اصبروا واحتسبوا، لكن لا تكبتوا مشاعركم. لا تخجلوا من الاعتراف أنكم تألمتم، أو تضررتم نفسيًا. الغفران لا يعني الإنكار، والبر لا يعني دفن الأذى.
في الختام…
نحتاج إلى ثقافة جديدة، تُنصف الطرفين. تُعلم الأب كيف يكون حنونًا بلا ضعف، وتُعلّم الابن كيف يُعبّر بلا وقاحة. نحتاج إلى بيوتٍ يكون فيها الحنان أساسًا، والحوار عادة، والرحمة دستورًا.
فالأسرة ليست ميدان حرب، ولا ساحة سلطة. بل هي حضن، ودفء، وسكن.
رسالة إلى كل أب: قبل أن تطلب الاحترام، تَفَهَّم. قبل أن تُعاقب، اسمع. قبل أن تصرخ، اقترب.
سنكون الآباء الذين تمنيناهم لأنفسنا… لا المتحدثين باسم الألم الذي ورثناه.
بقلم: آية الرمضاني